تجمع المغاربة المقيمين بالسعودية يخلدون الذكرى الواحد والأربعون لإعلان الوحدة الوطنية للمسيرة الخضراء 2016

في غضون شهر أكتوبر من سنة 1975 أقر الملك الراحل الحسن الثاني بحق المغرب في صحرائه، و أعلن عن تنظيم مسيرة سلمية مكنت من فتح الطريق لاسترجاع الصحراء بعد أكثر من 75 سنة من الاحتلال الاسباني.

إنها المسيرة الخضراء لتأكيد مغربية الصحراء و التي شملت 350 ألف مغربي اجتازوا الحدود رافعين القرآن الكريم و الأعلام الوطنية.

و بإعلان جلالته عن إطلاق المسيرة الخضراء في نونبر 1975 صنع حدث القرن بامتياز، إن على الصعيد السياسي أو على الصعيد اللوجيستيكي والتنظيمي ، انطلق 350 ألف مغربي، في نظام وانتظام، من طرفاية إلى العمق الصحراوي “مدججين” بسلاح خاص غير معهود في الحروب، قوامه كتاب الله (المصحف الشريف) والعلم الوطني والإيمان الراسخ بعدالة القضية ، و كانت مناسبة برهن فيها المغاربة عن كفاءة لوجيستيكية عالية وبعد استراتيجي جعلت المسيرة الخضراء تتموقع بين مكوّنات الهوية المغربية. إنها تتويج لحرب خاضها الملك الراحل الحسن الثاني مع الجنرال فرانكو حيث أطلق في وجه الجيش الإسباني حربا سلمية جعلته مكتوف الأيدي.


ألف سؤال وسؤال قد يتبادر إلى الذهن بخصوص المسيرة الخضراء بالنسبة للأجيال التي لم يكتب لها معايشة هذا الحدث العظيم ،
لماذا قرّر جلالة الملك تنظيم المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء المغربية؟ كيف اتخذ هذا القرار الذي اعتبره قرار العمر؟ ولماذا أحيطت هذه المبادرة الملكية بجدار سميك من السرية والكتمان؟ من سهر على إعداد خطتها الأمنية والتنظيمية واللوجيستيكية والاجتماعية وضمان نجاعتها و فعاليتها؟

هذه أسئلة وأخرى شغلت بال الكثيرين سيما وأن المسيرة الخضراء لفتت انتباه الجميع، عموم الناس والمتتبعين والباحثين في جملة من الاختصاصات.

منذ صيف 1975 تدهورت الأوضاع بالصحراء وبلغ هذا التدهور حدة تطلبت إيجاد مخرج عاجل ، فبعد صدور رأي محكمة العدل الدولية انطلقت المسيرة الخضراء، التي كان الغرض منها الضغط على إسبانيا من أجل جرها للمفاوضات بنية التوصل إلى اتفاق في صالح المغرب. ومنذ الإعلان عن انطلاق المسيرة الخضراء أعلن عن بداية المفاوضات التي آلت إلى اتفاقية مدريد في 14 نونبر 1975.

في البداية التقى أحمد عصمان (وزير أول آنذاك) مع “خوان كارلوس” و”آرياس نافارو”، إلا أن هذا اللقاء لم يثمر، وفي نفس الوقت بعث جلالة الملك الراحل الحسن الثاني أحد وزرائه بمعية عضو من ديوانه إلى الجزائر لمقابلة الرئيس الهواري بومدين على أمل إقناعه، وتبين وقتئذ أن اسبانيا عازمة على الدفاع عن وجودها بالصحراء، حتى ولو أدى ذلك إلى مواجهة مسلحة، وفعلا قامت مدريد باستنفار قواتها المسلحة بالصحراء، ورابط 35 ألف جندي اسباني على بعد أقل من 20 كلم من الحدود الفاصلة بين المغرب والصحراء حينئذ، مع تلغيم جزء منها لقطع الطريق على المشاركين في المسيرة.

وفي يوم 3 نونبر التحق رئيس “الجامعة الصحراوية” (الهيأة الصحراوية الوحيدة المنتخبة)، خاطري الجماني، بالمغرب وجدد البيعة بين يدي جلالة الملك في اليوم الموالي، حيث نظم حفل خاص لهذا الغرض بمدينة أكادير.

وألقى جلالة الملك الراحل الحسن الثاني يوم 5 نونبر 1975 خطابا لإعطاء انطلاقة المسيرة الخضراء، إذ أمر المتطوعين ببداية السير في “نظام وانتظام” صبيحة اليوم الموالي (6 نونبر)، وقال في هذا الخطاب: “غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة الخضراء، غدا إن شاء الله ستطأون طرفا من أراضيكم وستتلمسون رملا من رمالكم وستقبلون ثرى وطنكم العزيز”.

قبل 6 نونبر بأيام قليلة التقى “كارو مارتينيز”، الوزير بالرئاسة، المكلف بالصحراء، بجلالة الملك الراحل الحسن الثاني بأكادير، وأجرى معه حديثا رأسا لرأس دام ساعات لم يعلم أحد فحواه. وفي اليوم الموالي بدأ تحرك الجيش المغربي بشرق طرفاية نحو الصحراء، 20 ألف جندي بقيادة الكولونيل أحمد الدليمي (ثلث القوات المسلحة وقتئذ) مقسمين إلى 4 وحدات، قادها كل من الكولونيل بنعمان والكولونيل بنكيران والكولونيل المجاوي والكولونيل الوالي) .

آنذاك علم المحافظون الاسبان أن أيامهم بالصحراء أضحت معدودة وأنه لا مناص من الجلاء، فعمل الضباط وضباط الصف الموالين لفرانكو على تسريح 2500 صحراوي يعملون بالمجموعات المتحركة ” تروباس نوماداس” والشرطة الحدودية الاسبانية دون تجريدهم من السلاح ووسائل النقل، حيث نصحوهم بالالتحاق بجهة البوليساريو. و بعض هؤلاء هم الذين شكلوا النواة الأولى لمقاتلي الجبهة.

في خضم هذا الجو العام انطلقت المسيرة الخضراء، التي شكلت في واقع الأمر عدة مسيرات، حيث كان كل إقليم يمثل مسيرة، لها قيادتها وهيكلتها لتدبير شؤونها اليومية، وارتبطت هذه القيادات الإقليمية باللجنة المركزية المكونة من ممثلي مختلف الوزارات والمصالح المركزية.

فتحت كل عمالة وإقليم مكاتب لتلقي طلبات التطوع لانتقاء 350 ألف للمشاركة في المسيرة، وهو العدد الذي يمثل المواليد الجدد كل سنة بالمغرب، مع تحديد “كوطا” مسبقة للنساء، 10 في المائة من مجموع المشاركين ( أي 35 ألف امرأة)، كما تم تحديد “كوطا” إجمالية لكل إقليم، مرتبطة بعدد ساكنته. كما تم تعيين 44 ألف مشارك من الرسميين والمؤطرين والإداريين ، كما ساهم في المسيرة 470 طبيبا وممرضا.


على امتداد 12 يوما عملت 10 قطارات يوميا وبدون انقطاع على نقل المتطوعين من الشمال إلى مدينة مراكش، ومنها إلى أكادير على متن الشاحنات والحافلات التي بلغ عددها 7813. لقد تم نقل المتطوعين من أكادير إلى مخيمات أقيمت لاستقبالهم بضواحي طانطان وطرفاية.

تحركت الموجة الأولى من المتطوعين يوم 23 أكتوبر 1975 انطلاقا من مدينة الرشيدية. وشارك أكثر من 5000 عون مدني (موظفو الدولة والجماعات المحلية) في تأطير المتطوعين علاوة على مجموعة من المنتخبين.


على سبيل المثال لا الحصر، رافق 10 آلاف متطوع من الرباط- سلا، 8 قواد و20 من الشيوخ والمخازنية وطبيبان و12 ممرضا و62 مرشدا اجتماعيا و20 من الوعاظ و63 إطارا وموظفا مدنيا في اختصاصات مختلفة و120 عنصر من الكشفية.

وقام ما يناهز 20 ألف فرد من القوات المسلحة والدرك بتأطيرها وحمايتها والحفاظ على سلامة المشاركين فيها. وبالرجوع إلى الإحصائيات والأرقام المتوفرة تبين أن المسيرة الخضراء تطلبت ما يناهز 20 ألف طن من المواد الغذائية، وأكثر من 2500 طن من المحروقات و230 سيارة إسعاف.

بدأ التخطيط الفعلي للمسيرة الخضراء يوم 21 غشت 1975، حينما أسرّ جلالة الملك الراحل الحسن الثاني بعزمه على تنظيم مسيرة إلى الصحراء لثلاثة عسكريين، “الكولونيل أشهبار ،الكولونيل بناني والكولونيل الزياتي ،حيث كلفهم بالاعتكاف لإعداد مخطط شامل للمسيرة.


و على امتداد 20 يوما كان تبادل المعلومات بخصوص الإعداد للمسيرة، بين الرباط والأقاليم، يتم كل ليلة بواسطة أشخاص، لم يسمح لهم باستعمال الورق والكتابة ولا الاتصال عبر الهاتف أو الراديو أو التليكس، فكل المعلومات كانت تمرر بطريقة شفوية تحت جناح الظلام وفي سرية تامة.


وبعد سويعات من إعلان محكمة “لاهاي” عن رأيها يوم 16 أكتوبر 1975، كشف جلالة الملك الراحل الحسن الثاني للعالم عن قراره الرامي إلى تنظيم المسيرة الخضراء، لقد فاجأ الجميع بما في ذلك مخابرات الدول العظمى.

لم يكن قد دار ببال المغاربة أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني الذي حكم المغرب ما يزيد عن ثلاثة عقود ونصف، قد تخالجه فكرة التنحي عن حكم المغرب، من كان يظن أن هذا الملك العظيم قد يترك فكرة من هذا النوع تحتل تفكير جلالته لحظة، لتصبح شغله الشاغل آنذاك، خاصة وأنه سعى بكل الوسائل إلى تثبيت دعائم الحكم بمملكة العلويين و تجديث المغرب.


صرح مؤنس جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، الراحل “بين بين”، الذي نذر حياته في سبيل ترويق مزاج ملك المغرب آنذاك، أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني كان على أهبة تقديم استقالته والتنحي عن الحكم إذا ما فشلت المسيرة الخضراء في بلوغ أهدافها المنشودة، أي استرجاع الأقاليم الصحراوية. لكن كيف تسللت فكرة التخلي عن حكم المملكة إلى مخيلة جلالة الملك الراحل الحسن الثاني؟


“ماذا كنتم ستفعلون لو أخفق رهانكم على المسيرة الخضراء”؟ كان هذا السؤال واحد من عشرات الأسئلة التي ألقاها الصحفي الفرنسي “إيريك لوران” على جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، وبغض النظر عما أفضى به ملك المغرب آنذاك من أجوبة لإطفاء حرقة السؤال، غير أن مضمونها حسب المتتبعين، أخذ طابع اعترافات لم يكن من السهل أن تنطلق على لسان ملك عظيم، فماذا كان سيفعل جلالة الملك الراحل الحسن الثاني لو اخفق رهانه على المسيرة الخضراء؟ يقول جلالته جوابا على ذلك في كتاب “ذاكرة ملك”: “عندما عدت إلى الرباط قادما من أكادير صعدت إلى شرفة القصر لأتأمل اخضرار ملعب الغولف، ونظرت إلى البحر نظرة مغايرة وأنا أخاطب نفسي (لقد كان من الممكن أن لا تعود إلى الرباط إلا للم حقائبك استعدادا للمنفى)، فلو فشلت المسيرة لكنت استقلت، إنه قرار أمعنت التفكير فيه طويلا بحيث كان يستحيل علي أن أترك على الساحة ضحايا لم يكن لهم سلاح سوى كتاب الله في يد والراية المغربية في اليد الأخرى. إن العالم كان سيصف عملي بالمغامرة… وكما نقول عندنا في اللهجة المغربية “ما كان بقي لي وجه أقابل به الناس”.

إن فكرة التنحي عن العرش التي جثمت بثقلها على ذهن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، كان من شأنها أن تشكل أزمة دستورية وسياسية، لكن جلالته كان قد وضع كل الاحتمالات من أجل ذلك.. وجوابا عن الكيفية التي كان من الممكن أن يتصرف جلالته على ضوئها سياسيا ودستوريا، فقد قال ” كنت سأشكل مجلسا للوصاية في انتظار أن يبلغ نجلي سن الرشد، وكنت سأذهب للعيش في فرنسا أو في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالضبط في نيوجيرزي، حيث أتوفر على ملكية هناك”، لكن هل كان جلالة الملك الراحل الحسن الثاني على أهبة الرحيل عن المغرب في حالة فشل المسيرة الخضراء؟، “أجل… وفي هذه الحال كان غيابي سيكون جسديا فقط، لأن المرارة لن تفارقني لاسيما وأنني ذقت طعم المنفى”، يقول جلالته.

موازاة مع المسيرة الخضراء المدنية والعلنية، عمل الحسن الثاني على الإعداد لمسيرة أخرى، لكنها سرية وعسكرية. إذ نادى رجل ثقته آنذاك أحمد الدليمي وكلفه بالعمل على التسلل إلى الصحراء برجاله، وذلك لأنه أيقن منذ أن أعلنت محكمة “لاهاي” عن رأيها وقدمت الأمم المتحدة تقريرها في موضوع الصحراء سنة 1975 ، أن الأرض ستعود لمن يحوزها بمجرد أن يغادرها الجنود الإسبان. وذاك ما كان، إذ ما أن تم الإعلان عن وقف المسيرة الخضراء حتى كان الجيش المغربي بقيادة أحمد الدليمي قد رسخ أقدامه على جزء من تراب الصحراء بدءا من الشرق (عملية أحد).

عندما كانت الأنظار موجهة صوب المسيرة الخضراء، انطلق أحمد الدليمي بجيشه لضمان التواجد الفعلي على أرض الصحراء، فقبل الإعلان عن وقف المسيرة، كان قد توغل على مسافة 100 كلم في الصحراء، متقدما نحو “الفارسية” مرورا بـ “الجديرية” ثم “الحوزة” فـ “المحبس” وصولا إلى السمارة دون أدنى مقاومة.

و حسب الكاتب “موريس باربيي” صاحب كتاب “نزاع الصحراء”، فقد كلفت المسيرة الخضراء زهاء 300 مليون دولار، أي ما يقارب 3 ملايير درهم (300 مليار سنتيم) تمّ توفيرها بواسطة اكتتاب وطني ومساعدة خارجية آتية أساسا من المملكة العربية السعودية.

لقد تحمل المغاربة جزءا كبيرا من هذا المبلغ بواسطة اكتتاب وطني نادى به جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، وقد أخذ في واقع الأمر شكل “ضريبة” طبقت على الأشخاص المعنويين (الشركات) والأشخاص الذاتيين، تقمصت شكل اقتراض ضخ أكثر من 108 مليار في خزينة الدولة في أقل من 3 أشهر.